كتب الباحث الاقتصادي عبداللطيف شعبان :
أشك في أرقامكم
بين حين وآخر يعرض أحد مراكز الدراسات أو إحدى جهات منظمة الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية مؤشرات إحصائية عبر هذا المنبر أو ذاك أو هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، عن بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في بلدنا سورية، بحيث يظهر من خلال هذه المؤشرات أن سورية تُصنّف في الترتيب الأخير أو الأضعف أو الأسوأ، قياساً بكثير من بلدان العالم، وتُقبِل بعض الجهات الباحثة أو الدارسة داخل سورية أو خارجها لاعتماد هذه المؤشرات ونشرها مدَّعين موثوقيتها بحجة أنها صادرة عن جهات مسؤولة أو ذات شأن، ما يجعل من غير الجائز التشكيك فيها، والمؤسف أن كثيرين من المهتمين والقراء يثقون بعارضي ودارسي هذه المؤشرات، فيروونها وينشرونها مقتنعين بها.
قبل أيام نشر أحد الباحثين مقالاً ضمنه مؤشراً إحصائياً يقول بأن / 90% / من الشعب السوري تحت خط الفقر، وسبق أن نشره آخرون، وإثر قراءتي لهذا المؤشر لم أقتنع به وامتعضت كثيراً منه، وتوقعت أن الباحث المذكور اعتمد على مصدر يعتبره عالي المستوى، وقد تبيّن لي من خلال دخولي على الانترنت أن السيد مارتن جريفيث، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، صرح بأن أكثر من / 90% / من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن تصريحاته هذه جاءت خلال إحاطة له قدمها إلى مجلس الأمن الدولي، حول الأوضاع في سوريا، بوصفه مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، وأرْفَقْت الجهة الناشرة مع الخبر صورة تظهر تجمُّعاً لعشرات المواطنين للحصول على اسطوانة الغاز، وناشر آخر للمؤشر يظهر صورة تجمُّع آخر مماثل للحصول على الخبز.
وهنا أسأل هل إذا احتاج الأمر أن يقف المواطنون بالدور لفترة زمنية محدودة للحصول على مادة يحتاجونها في بلد أمضى أكثر من عشر سنوات – وما يزال - في أعتى وأشرس حرب شهدها بلد من بلدان العالم، توجب تصنيفه في الدرك الأسفل من حالة الفقر العالمي، علما أنه قد تم التخفيف مؤخراً من هذه التجمعات بعد أن تم تنسيق الدور عن طريق البطاقة الذكية، والمواطنون السوريون الذين يعانون من الانتظار المديد، يكظمون الغيظ لأنهم يعون حجم الضائقة الاقتصادية التي يمر بها البلد.
نعم إن واقع الفقر قائم نسبياً في مكان وآخر على الأرض السورية، ولكن ما من عاقل يثق بأن / 90 % / من الشعب السوري تحت خط الفقر، عندما يجول في المدن والقرى السورية ويرى بأم عينيه واقع الحال المعاشي من خلال الشارع. وأنا مواطن سوري من ذوي الدخل المحدود، أرى واقع الناس وأسمع أحاديثهم وأجول بينهم في محافظتي وبعض المحافظات الأخرى، أشكو وأسمع شكوى الكثيرين من واقع الحال، ولكن لا أرى واقعاً يتناسب مع هذا المؤشر أو حتى يقاربه، نعم كثيرون يضجُّون من غلاء الأسعار وضعف الرواتب ومعاناة تقنين المحروقات والكهرباء، ولكنهم في منتهى الحيوية والنشاط والأمل المقترن بعملهم اليومي الدؤوب للانتقال إلى حال أفضل، فخلال النصف الأخير من العام الماضي زرت مدينة دمشق وزرت مدينة حلب مرتين، هذه المدينة التي عاث فيها الإرهاب سنوات وخرب ما خرَّب، وتجولت تجولاً حراً في أغلب الأحياء، ورأيت الكم الكبير الذي يملأ السوق من جميع الحاجيات الاستهلاكية والمنزلية، مع إقبال مقبول على الشراء رغم الغلاء الموجود، وقد زرت مع زملاء لي غرفة صناعة حلب وغرفة تجارة حلب، والمدينة الصناعية في حلب، وبعض مطاعم حلب، ولم ألمس إلّا الحيوية والنشاط والتفاعل المجتمعي المتآلف والمتآخي والتفاؤل الكبير لدى الكثيرين، ما يوحي بأن المؤشر الذي يقول أن / 90%/ من الشعب السوري تحت خط الفقر هو غير حقيقي و يفنده الواقع، رغم وجود حالات فقر فعلية لا يجوز نكرانها، إلّا أن كثيراً منها مغطَّى بالغني في النفس والشهامة والكرامة والعزة والوطنية والشموخ والإباء والصبر، الذي يتحلى به الكثيرون، وخاصة في ظل الأمان الذين يعيشونه اليوم بعد أن عاشوا مآسي فقدانه في السنوات الماضية، وهذه ليست تعابير إنشائية كما قد يتهمها البعض بل هي تعابير بنائية، فإعادة البناء شعار الجميع أملاً وعملاً، وسيتحقق لهم ذلك.
ولكن كلمة حق تقال: ما لم يتم العمل على معالجة الوضع المتردي للكهرباء والتحضير لمعالجة سبل تمكين جيل الشباب القادم من تأمين مسكن الحياة الزوجية - الذي أصبح حلماً هذه الأيام- والحد من ارتفاع الأسعار الجنوني لجميع السلع، وتأمين مقومات الإنتاج الزراعي بشكل معقول، فنحن نسير باتجاه هذا المؤشر الخطير والطامة الكبرى يوم لا ينفع الندم.
عبد اللطيف شعبان
فينكس