تحوّل البرلمان الأردني قبل أيام إلى «حلبة ملاكمة» خلال جلسة لمناقشة تعديل الدستور، ودارت معركة بين النواب تبادلوا خلالها الصفعات واللكمات والشتائم.
هو حدث عادي يجري في كل برلمانات الدنيا تقريباً، حيث يتعارك نواب الأمة لمصلحة المواطنين الذي يمثلونهم.
ولكنه لم يحصل حتى الآن في مجلس الشعب السوري، الذي يعيش أعضاؤه الـ 250 في سلام ووفاق دائم.
تمرّ جلسات البرلمان السوري بدون تشنج ولا اشتباك بسيط بالأيدي، ولا حتى بالكلام.
يعيش أعضاء مجلس الشعب السوري حياة «الكهنة البوذيين»، في تصالح لا نهائي مع أنفسهم، يمضون ولايتهم لأربع سنوات ميلادية بكل هدوء، لا يعكّر صفو جلساتهم تدهور اقتصادي، ولا فساد حكومي، تنهار الدنيا خارج مجلسهم دون أن يرّف لهم جفن.
جلسات عادية جداً.
يسير البلد بخطى ثابتة نحو المجهول؛ نزح 12 مليون سوري داخلياً، وهرب سبعة ملايين مواطن من بلدهم، غرق المئات في قوارب الموت، استشهد وأصيب مليون إنسان سوري، تهدّم نصف البلد، وانهار الاقتصاد عدة مرّات، وعاد السوريون إلى العصر الحجري خدماتياً ومعيشياً، ولم يعقد مجلس الشعب السوري جلسة طارئة واحدة، ولم ينهِ حتى عطلته التشريعية.
ما زال المجلس يعقد جلساته تحت مسمى «الدور التشريعي العادي»، حيث يرى البرلمان السوري كل ما سبق ذكره من مصائب أموراً عادية لا تستوجب الاستنفار!.
لم يجتمع مجلس الشعب السوري على وقع الخطر الوجودي الذي يتهدد حياة المواطن السوري، ولكنه اجتمع لعدة ساعات لصياغة بيان للتأكيد أن لواء إسكندرون والجولان السوري المحتل هي «مناطق سورية»، وهذه أمور بديهية لا تحتاج جلسة برلمانية لتأكيدها عبر الإدانة والاستنكار والقلق!.
عضو منفصل عن الواقع
يعجز المواطن السوري اليوم عن ذكر اسم عضو واحد في مجلس الشعب السوري، لأن العضو يعيش في عالم آخر، منفصل عن واقع ناخبيه المفترضين.
ومن المتعارف عليه أن برلمانات الدول التي تحترم نفسها هي السلطة التشريعية العليا المنتخبة من الشعب، وهي مسؤولة أمامه، وفي كل العالم تسائل البرلمانات حكوماتها، وتستجوبها وتحجب الثقة عن وزرائها، ولكن في سورية الوضع مختلف، فمجلس الشعب خاضع للحكومة ومروّج لقراراتها المجحفة بحق المواطن.
يقف عضو مجلس الشعب السوري ضد مصلحة ناخبيه، وتراه واقفاً على أبواب الوزراء لتلبية خدماته الخاصة، وليس لمصلحة المواطنين أو الدفاع عنهم.
حصانة دبلوماسية
يلهث معظم الناس خلف النيابة في سورية للحصول على «حصانة دبلوماسية»، ربما يمارس تحتها البعض أعمالاً غير مشروعة ومشبوهة وأحياناً يخوض النائب أعمالاً تجارية لا تتناسب مع وظيفته الأساسية كممثل لمصالح الشعب السوري، وظهرت في السنوات الأخيرة طبقة من رجال الأعمال النواب في المجلس، غالبًا ما يكون ترشحهم لاكتساب الحصانة النيابية.
يحصل عضو مجلس الشعب على راتب كبير قياساً بالموظفين العاديين، وبدلاً نقديًا عن تنقلاته من مركز إقامته إلى دمشق لحضور الجلسات، ينال سعادة النائب لوحة سيارة حكومية ومرافقة أمنية إن اقتضى الأمر، العضو مشمول بالتأمين الصحي والاجتماعي العام للدولة، وهي أمور يحرم منها حالياً ملايين السوريين الذين يفترض أنه يمثلهم.
دورة حياة العضو
يبدأ عضو مجلس الشعب السوري دورة حياته البرلمانية بـ «التزكية»، ويغطّ بعدها في «نوم عميق»، يتخلله «استيقاظ مؤقت» للتصفيق أو الموافقة بالإجماع على قرار حكومي ضد مصلحة المواطن، أو لمناقشة موضوع لا يهمّ الشعب، ويعود بعدها إلى «سباته التشريعي».
استيقظ مجلس الشعب السوري مؤخراً، ليس على أصوات المواطنين الذين يئنون تحت وطأة قرارات رفع الأسعار، بل لمناقشة قانون يشدد العقوبات على من ينتقد الحكومة ويعارض قراراتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وينال من «هيبة الدولة» و«شرف الموظف العام»، بالحبس مدة سبع سنوات والغرامة حتى ١٠ ملايين ليرة، دون أن يناقش عقوبة انتهاك كرامة المواطن.
أمر غير مستغرب، لأنه في جلسة سابقة يفترض أنها لاستجواب الحكومة هاجم رئيس مجلس الشعب حمودة صباغ منتقدي الحكومة، عبر ما وصفها بـ «مشتقات وسائل التواصل الاجتماعي» التي تدار خارجياً من قبل الأعداء لإحداث بلبلة وفتنة بين السوريين المنتصرين حسب تعبيره.
عضو يقرأ ويكتب فقط!
أطلق رجل الأعمال السوري وعضو مجلس الشعب السابق محمد قبنض نظريته في الإعلام وهي «الطبل والزمر» من تحت قبة البرلمان، فلا داعي للعجب من كل أمر يثار تحت هذه القبة.
فيديو بسيط جرى تسريبه كشف الأهوال التي تحدث داخل المجلس، فكيف إن جرى بثها على الهواء مباشرة؟.
يفترض أن تكون جلسات مجلس الشعب علنية، ولكنها قد تتخذ صفة السرية ولا تنقل عبر التلفزيون، مع العلم أن كل الكلمات متوقعة، ومجهزة سابقاً.
لا ضرورة للتدقيق في مؤهلات الأعضاء، لأنه يشترط في عضو مجلس الشعب السوري أن يكون ملمًا بالقراءة والكتابة فقط، وهو شرط أدى إلى وصول البعض من أشباه الأميين إلى قبة البرلمان.
بات مجلس الشعب معادياً للشعب والطبقات الفقيرة، مع أن نصفه على الأقل يفترض أن يكون من العمال والفلاحين، وصغار الكسبة، الذين قاموا بثورة على الإقطاع، ولكنهم تحولوا مع أبناءهم إلى إقطاعيين أشد ضراوة.
حجب ثقة
كي لا نحمّل الأعضاء أكثر مما يتحمّلون، تبدو المشكلة في سورية بطبيعة النظام البرلماني، حيث يسيطر على مجلس الشعب «حزب البعث» الحاكم الذي يقود جبهة من الأحزاب المتحالفة معه، حصلوا في الانتخابات الأخيرة على 183 مقعداً من أصل 250، فيما فاز مستقلون معظمهم يدور في فلك السلطة ببقية المقاعد، دون وجود حالة اعتراضية قوية وواضحة المعالم في المجلس، عدا بعض الأصوات اليتيمة العاجزة عن التغيير بمفردها، وتمّ إقصاؤها في الجولة الأخيرة.
فكيف يمكن لمجلس معظمه تابع لحزب رئيس الوزراء أن يسائل الحكومة؟.
مع العلم بأن رئيس الجمهورية بشار الأسد وهو أمين عام حزب البعث العربي الاشتراكي، يدعو في كل مناسبة لقيام مجلس الشعب بدوره في مساءلة الحكومة ومراقبة عملها، إلا أن المجلس حتى تاريخه لم يحجب الثقة عن أية حكومة أو وزير ولا حتى موظف صغير، ولم يوّجه لهم أية كلمة جارحة.
دستورياً ممكن
منذ العام 1973 لا يشترط الدستور السوري موافقة مجلس الشعب على الحكومة، لا عن طريق منحها الثقة على أساس بيانها الوزاري.
لكن، بموجب دستور العام 2012، يجب على الحكومة التقدم ببرنامجها الوزاري خلال شهر من تاريخ تشكيلها، وكذلك يجب على الحكومة تقديم بيان سنوي عن أعمالها للمجلس.
منح الدستور مجلس الشعب الحق بعقد جلسات استماع، أو مناقشة مع الحكومة، كما منح الحق للأعضاء بتوجيه أسئلة خطية أو شفهية للحكومة أو الوزير المختص، ومنح أيضًا البرلمان الحق بتشكيل لجان تحقيق نيابية بحق أحد الوزراء، وطلبه للاستجواب أمام مجلس الشعب، وحجب الثقة عنه مما يعني دستوريًا استقالة الوزير أو الحكومة بكاملها في حال حجبت الثقة عن رئيس الوزراء.
مجلس الدُمى
في ظل هذه الخلطة الغريبة، من التزكية إلى «الفوز البديهي» لقوائم الجبهة الوطنية التقدمية، والأداء المخجل لمجلس الشعب السوري، لا يمكن أن نعتب على السوريين إذا نظروا إلى الانتخابات البرلمانية على أنها مجرد مسرحية، ولا يمكن اتهامهم بوهن نفسية أعضاء مجلس الشعب، إذا أطلقوا عليهم مسميّات مثل «مجلس الدمى والتصفيق أو مجلس النوّام و الموتى».
هناك عطش لدى المواطن السوري لوجود حالة برلمانية اعتراضية تسائل الحكومة حول قراراتها القاتلة بحق الشعب السوري، ولذا نجد أن أي كلمة لأحد الأعضاء خارجة عن مألوف الإجماع في المجلس وتلامس هموم المواطن تنتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، مع أنه يتحدث عن بديهيات متداولة على صفحات السوريين، ولكن هؤلاء بحاجة لمن ينطق باسمهم ويمثلّهم ويروي همومهم سواء في البرلمان أو في الإعلام.، ولا يجدون.
مجلس العموم البريطاني
ذات مرّة استدعى مجلس الشعب السوري المدير السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون في سورية، الإعلامي الراحل فؤاد بلاط، لمناقشته في أحوال الإعلام الرسمي وكيفية تطويره، فسأله أحد الأعضاء باستهتار: لماذا لا يكون التلفزيون السوري مثل هيئة الإذاعة البريطانية؟ فأجابه الراحل: «عندما يصبح مجلس الشعب مثل مجلس العموم البريطاني، نصبح نحن مثل الـ «بي. بي. سي».
هاشتاغ سيريا