بعد أن سيطرت حالة من الذعر على الأسواق المالية قبل عام، يسود القلق اليوم من الإفراط في التوقعات، حيث أفسحت المخاوف من حدوث كساد اقتصادي في عام 2020 الطريق، لسيطرة القلق بشأن التضخم المفرط في 2021،حيث دفعت تداعيات الجائحة الاقتصاد نحو أسرع دورة وأكثرها تقلباً في العصر الحديث.
ما نشهده من تقلبات الاقتصاد الكلي الاستثنائية لا يمكن قياسها بالمقارنة بالسوابق التاريخية.
قفزة في التضخم
وصل معدل تضخم أسعار المستهلكين في مجموعة العشرين إلى 3.8% في أبريل، بزيادة عن مستهدف البنوك المركزية البالغ 2% اللازم لاستقرار الأسعار.
ارتفع التضخم في الولايات المتحدة بنسبة 4.2% على أساس سنوي، ليسجل أعلى مستوى في 13 عاماً، مقارنة بمستوياته البالغة 0.3% فقط العام الماضي. وترجع تلك القفزة إلى انهيار الإنتاج العالمي قبل عام.
لفهم ما تعنيه تلك الأرقام، وما إذا كان هناك ما يبرر التحذير، لابد أولاً معرفة الأسباب التي تدفع الأسعار للارتفاع.
إذا كان السبب الرئيسي لارتفاع الأسعار هو ضعف قدرة القطاع الصناعي على تلبية طلب المستهلكين على المدى الطويل، سيتطلب ذلك إنهاء إجراءات التحفيز، والسماح بارتفاع أسعار الفائدة.
ولكن إذا كان السبب الرئيسي يتمثل في نقصٍ مؤقت في المعروض، يتزامن مع استعادة الطلب العالمي للزخم، يمكن اعتبار ما تشهده المرحلة الحالية من ارتفاع التضخم، جزء طبيعي من التعافي من تداعيات كوفيد-19.
تضخم لفترة عابرة
أرى أننا نشهد السيناريو الثاني، حيث شهدت الدورة الاقتصادية أثناء انتشار كوفيد- 19، صدمات غير عادية في جانب العرض على صعيد الإنفاق الاستثماري، والقدرات الإنتاجية، ومساهمات القوى العاملة، على عكس استقرار قوى الطلب التقليدية.
وبالتالي، لنجاح السياسات الاقتصادية، لابد من عدم التركيز على الشكوك حول استمرارية انتعاش الطلب، وفي المقابل، نحتاج للتركيز على إعادة بناء إمكانات نمو الاقتصادات.
ولتحقيق ذلك نحتاج إلى دعم التحولات الرقمية والخضراء لكافة الصناعات، من خلال توفير شروط ائتمانية سهلة (أسعار فائدة منخفضة وأسواق ائتمان سائلة)، وزيادة حوافز الاستثمار، وتطوير البنية التحتية، وسلاسل التوريد المحلية.
كما يعني ذلك أيضاً ضرورة زيادة تطوير قدرات القوى العاملة، من خلال التدريب، ودعم فرص العمل المتكافئة. وتمثل تلك السياسات الضمان لتحقيق انتعاش مستدام من تداعيات الوباء.
الأولوية للبقاء
تزامن ركود الاقتصاد العام الماضي مع حالة من عدم اليقين والتخوف من امتداد عمليات الإغلاق. فقد أعطت الشركات الأولوية للبقاء، على تحقيق النمو، وقامت بإلغاء الطلبات والسحب من المخزون، والحفاظ على السيولة، ما أدى إلى اضطرابات واسعة في خطط الإنفاق الاستثماري والقدرات الإنتاجية، انعكست على سلاسل التوريد العالمية خلال ذروة معاناة الاقتصاد العالمي العام الماضي.
ومع إعادة فتح الاقتصادات، تظهر مشاكل المعروض الناتجة عن تلك الفترة، وتتصدر المشهد، ويتزامن ذلك مع إطلاق العنان لطلب استهلاكي مكبوت، نتيجة تسارع وتيرة التطعيمات، وزخم المساعدات المالية، وتراكم المدخرات، إضافة إلى مكاسب الأسهم وأسعار المنازل، ما نتج عنه ارتفاع في الإنفاق على سلع مثل الأثاث والسيارات، والتي تخطت مستوياتها قبل الأزمة.
ارتفاع جماعي في الأسعار
في المقابل، تكافح المصانع لمواكبة ذلك الانتعاش المتسارع في الطلب، لينتج عن ذلك ارتفاع قصير الأجل في الأسعار بكافة القطاعات، ابتداءً من أشباه الموصلات إلى المعادن والسلع الزراعية.
ومن المقرر أن تستمر حالة النقص في المعروض والاختناقات اللوجستية حتى نهاية عام 2021، حيث تستغرق اختناقات سلاسل التوريد وقتاً لحلها. ولكن من السابق لأوانه افتراض استمرار حالة عدم اليقين بسبب كوفيد- 19 لتمثل الوضع الطبيعي بعد ذلك.
وبالنظر إلى القطاعات التي تشهد زيادات في الأسعار، نجدها تتركز في القطاعات التي كانت تعاني من تقلص الاستثمارات وحجم البنية التحتية اللازمة للنمو (مثل قطاعات السيارات والإسكان)، وكذلك القطاعات الأكثر تضرراً، من تداعيات كوفيد- 19، والتي لا تزال تتعافى بعد ما شهدت حالة ضعف كبيرة (مثل الجراحات الاختيارية وشركات الطيران).
يشير ذلك إلى أن ارتفاعات الأسعار ترجع إلى تقلص القدرات الإنتاجية قصيرة الأجل، وليس زيادة الطلب على المدى الطويل، ما يعني تضاؤل احتمالات استمرارها.
نقص العمالة
وفي نفس الوقت، هناك اختلالات مماثلة بين العرض والطلب في أسواق العمل بالاقتصادات المتقدمة، حيث تجد الشركات صعوبة في توفير القوى العاملة اللازمة لإعادة فتح وتشغيل مقار العمل بالطاقة القصوى كما كانت قبل الأزمة، في ظل اندفاعها لإعادة فتح أبوابها، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأجور، وخاصة بالقطاعات الأكثر تضرراً مثل البيع بالتجزئة والضيافة.
يبدو أن هناك أسواق العمل بعد الوباء تعاني انحساراً أكبر من المتوقع، نتيجة الدعم المالي المرتبط بتداعيات كوفيد- 19، وإغلاق المدارس والمخاطر الصحية، ما أدى إلى الحد من وتيرة عودة العديد من الأشخاص إلى سوق العمل مرة أخرى.
سيعود الناس للعمل ويتباطأ طلب المستهلكين بمرور الوقت، خاصة مع انتهاء إجراءات التحفيز، وسيؤدي ذلك لانخفاض تكلفة العمالة على الشركات، وتقليل فرص ارتفاع معدلات التضخم على المدى الطويل.
لم تُظهر نتائج أي استطلاع للمستهلكين ربط بين توقعات ارتفاع التضخم، بزيادة معدل نمو الدخول، ما يعني تراجع ارتفاعات التضخم مع تعافي الإنتاج الصناعي، وتنفيذ الاستثمارات المؤجلة، وتحقيق المكاسب من زيادة الاعتماد على التكنولوجيا بعد الجائحة.
تراجع أسعار النحاس والخشب
إلى جانب ذلك تؤكد التراجعات الأخيرة في أسعار السلع الأساسية مثل النحاس والخشب، وجود سقف لقدرة الشركات في قطاعات البناء والصناعة على تمرير ارتفاعات الأسعار للمستهلكين، الأمر الذي يؤكد أن ارتفاع تكاليف المدخلات أثر سلباً على الطلب ولم يدفع إلى تضخيمه.
وقد أدت تلك العوامل إلى اتخاذ الدورة الاقتصادية الحالية والفريدة من نوعها شكل "V" حيث دفع انحسار العرض إلى انخفاض الطلب، في الوقت الذي بدأ العرض في الزيادة، ما أدى إلى اختلال المؤشرات الدالة على توجهات الأسعار في كلا الاتجاهين، وهو ما يحمل دروساً مهمة للسياسات الاقتصادية الواجب اتباعها.
تطوير سلاسل التوريد
لكن التوسع في النمو المحتمل من خلال النجاح في مكافحة الوباء، يحتاج أيضاً إلى تعزيز التجارة وتطوير البنية التحتية لسلاسل التوريد، الذي يعد أمر بالغ الأهمية من أجل استعادة التوظيف الكامل، واستقرار الأسعار، والنجاح في تخلص الاقتصادات من برامج الدعم المالي والنقدي المرتبطة بكوفيد- 19، وهو ما يحتاج ما هو أكثر من تقديم حزمة إنقاذ لعام واحد، بل يتطلب التزام سياسي استراتيجي وشفافية تنظيمية لدورات سياسية متتالية.
تعد حزمة البنية التحتية المقترحة من الرئيس الأمريكي، "جو بايدن"، وخطة التعافي للجيل القادم من الاتحاد الأوروبي أمثلة على مثل هذه الإصلاحات الهيكلية.
ولكن ستكون هناك حاجة للتنفيذ السريع والفعال لتحسن معدلات النمو الاقتصادي المستدام دون أن ينتج عن ذلك ضغوط تضخمية.
في العام الماضي، أجبرنا كوفيد- 19 على إعادة التفكير بشأن الدور الذي تلعبه الحكومات والبنوك المركزية في إدارة أزمات الانهيار الشامل في الاقتصاد العالمي. ويعود الآن ليجبر الأسواق وصانعي السياسات على إدارة تداعيات تقلبات الأسعار.
نأمل أن يتم تنفيذ السياسات بالشكل الصحيح، حتى يتم إثبات أن مخاوف التضخم هذا العام عابرة مثل مخاوف الكساد العام الماضي.
بقلم: Lena Komileva
المصدر: بلومبرغ