أخبار

جدل في حمص حول مقترح تحويل قصر «مفيد الأمين» الأثري إلى مطعم

جدل في حمص حول مقترح تحويل قصر «مفيد الأمين» الأثري إلى مطعم

شُيّد قصر “مفيد الأمين” في القرن السابع الهجري كدار للحكم على يد الأمير المملوكي شهاب الدين كُجُك، فوق مبنى أقدم يعود إلى العصر الروماني، ويحتفظ القصر بعناصر معمارية نادرة من الإيوان المملوكي، والقباب والمقرنصات والكتابات العربية، وصولًا إلى الواجهات المبنية من البازلت الأسود الحمصي، ما جعله رمزًا معماريًا وثقافيًا تتوارثه الذاكرة المحلية حتى اليوم.


وينسب كتاب “تاريخ حمص”، لمؤلفه الخوري عيسى أسعد، القصر لأهل القديس مار إليان الحمصي وعائلته، وذلك لوجود قبو بداخل القصر يعود للقرن الثالث الميلادي، إذ إن والد القديس مار إليان كان الحاكم الوثني لمدينة حمص في تلك الفترة.



ورغم تعرضه لأضرار كبيرة خلال سنوات الثورة السورية، ظل القصر حاضرًا بقيمته التاريخية ووزنه الرمزي كأحد أهم الشواهد المعمارية المملوكية الباقية في المدينة، وربما أجملها على الإطلاق، بحسب وصف الآثاريين والمهتمين في التراث.


واصطدم هذا الثقل التاريخي مؤخرًا بمقترح استثماري لإعادة توظيف المبنى كمطعم تجاري، ما أثار موجة واسعة من الجدل في حمص، فبينما يرى مؤيدون أن المشروع قد ينعش المنطقة التي يقع فيها القصر تجاريًا، ويوفر فرص عمل جديدة في المدينة، يرفض آخرون الخطوة باعتبارها “تشويهًا” لهوية المكان واعتداء على تراثه، في ظل تحذيرات المختصين من مخاطر تحويل المبنى لوظيفة تحتاج إلى تدخلات تشغيلية قد تمس بنيته الأصلية.


جذور المشروع

عام 2009، وافق مجلس الآثار التابع للمديرية العامة للآثار والمتاحف على مشروع تحويل قصر “مفيد الأمين” إلى مركز توثيقي لمدينة حمص (دار وثائق)، إلا أن العمل بالمشروع توقف بعد بدء الثورة السورية بسبب وجود القصر في حي باب تدمر، الذي شهد مظاهرات وعمليات عسكرية بعد ذلك، كما تأثر القصر أيضًا بقذائف المدفعية التي أطلقها النظام السوري السابق على الحي.


وبعد سقوط النظام السوري، في كانون الأول 2024، اتجهت وزارة الثقافة نحو استثمار المواقع الأثرية، وفق ما قالته مصادر في الوزارة لعنب بلدي، وكان قصر “مفيد الأمين” أحد الأماكن الأثرية التي تنوي الوزارة استثمارها وتحويلها إلى مطعم تجاري.


لم تنشر وزارة الثقافة في معرفاتها الرسمية نسخة من قرار تحويل القصر إلى مطعم تجاري.


عنب بلدي لم تتمكن من الحصول على نسخة من القرار رغم المحاولات، لكن مصادر من وزارة الثقافة تحدثت إلى عنب بلدي وأكدت القرار.


تبدل المشهد كليًا بعد سقوط النظام السابق، إذ خرجت البلاد من حرب طويلة خلّفت دمارًا واسعًا في مبانيها الأثرية، ومنها قصر “مفيد الأمين”، وجعل هذا التحوّل القرارات القديمة موضع إعادة تقييم، كما قال مدير التخطيط في المديرية العامة للآثار والمتاحف، أيمن نابو.


وأضاف نابو أن أي مشروع وُقّع قبل 2011، يجب أن يخضع اليوم لمعايير جديدة تراعي واقع ما بعد الحرب وتعامل الدولة مع التراث، بوصفه جزءًا من الهوية السورية التاريخية.


في حديثه إلى عنب بلدي، قال نابو، إن فكرة الاستثمار في المباني التاريخية هي فكرة جديدة على سوريا، إلا أن الحكومة تتجه اليوم لاعتماده كأداة مساعدة لدعم الاقتصاد وتمويل إعادة الإعمار، بالاستفادة من نماذج مطبقة في دول أخرى، لذا أعادت وزارة الثقافة إحالة ملف استثمار المباني التاريخية إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف، ليُدرس داخل لجان متخصصة تقيّم مدى توافق المشاريع مع معايير الترميم وإعادة التوظيف.


ووفق ما أكده نابو، فإن مشروع تحويل القصر إلى مطعم لا يزال “قيد الدراسة”، بلا قرار نهائي يتيح تنفيذه أو يوقفه، بينما تبقى الأولوية، بحسب حديثه، لضمان عدم خروج المبنى عن سياقه الثقافي التاريخي، حتى في حال اعتماد أي صيغة استثمارية مستقبلًا.


بحسب وثائق حصلت عليها عنب بلدي، يتبيّن أن قصر “مفيد الأمين” لم يكن يومًا عقارًا عاديًا جرى التعامل معه بهامش من الاجتهاد، بل خضع لمسار قانوني طويل انطلاقًا من إدراك الخبراء والآثاريين قيمته الاستثنائية.


منذ تسجيله كـ”أثر” عام 1967، بدأت سلسلة إجراءات امتدت لأكثر من 15 عامًا، شملت قرار الاستملاك الأولي عام 1981، ثم الموافقة التنفيذية عليه مطلع 1982، قبل تشكيل لجنة تقدير الثمن الخاصة بالعقار في 1983، ليُستكمل الملف بالشراء والفراغ الرسمي لمصلحة الدولة عام 1984.


الوثائق تُظهر أيضًا محاولات متعددة لاستكمال الاستملاك أو الشراء الجزئي للعقار المجاور (رقم 338) بهدف حماية المحيط العمراني للقصر ومنع أي تدخلات قد تضر بنسيجه.


وبهذا المسار، استقر الوضع القانوني للقصر بوصفه ملكية عامة خاضعة لإدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف، ومخصّصًا للمنفعة العامة منذ عام 2009 كمركز توثيقي، ما يجعل أي محاولة لإعادة توظيفه خارج سياقه الثقافي موضع مساءلة للجهة المسؤولة عن العقار.


تحويل القصر إلى مطعم “جريمة ثقافية”

اعترض آثاريون ومهتمون بالتراث الثقافي لمدينة حمص على قرار تحويل القصر إلى مطعم، ووضع محتجون مجهولون لوحات احتجاجية على باب القصر معترضين على قرار تحويله إلى مطعم تجاري.


المعمارية والاختصاصية في ترميم وإدارة المواقع الأثرية لمى عبود، قالت لعنب بلدي، إن قصر “مفيد الأمين” ليس ملكًا للجهة المشرفة عليه، بل هو “ملك للمجتمع المحلي”، وتحويله إلى مطعم يشكّل “تشويهًا ما بعده تشويه”، ويشبه، بحسب تعبيرها، “تحويل قصر فيرساي إلى مطعم”.


عبود أوضحت أن المبنى يجب أن يرمَّم كما هو، ثم يُعاد توظيفه بوظيفة ثقافية غير ربحية تخدم المجتمع، وهو السبب الذي جرى من أجله استملاكه أصلًا، وإذا أرادت الوزارة الاستفادة منه فيجب أن يتم ترميمه كما هو ثم يُعاد استخدامه بوظيفة تناسبه على أساس ما تم ترميمه وليس العكس، أي أنه لا يمكن ترميم المكان بناء على تحويله إلى مطعم.


ويمثل قصر “مفيد الأمين” مع قصر “الزهراوي” أهم ما تركه المعمار الحمصي، بحسب عبود، والمساس بوظيفتهما التاريخية يعد خروجًا عن دور الوزارة ومديرية الآثار والمتاحف في حفظ هوية المدينة وتراثها.


خطورة فنية

اعتبر المهندس المعماري يونس رستناوي، مقترح تحويل قصر “مفيد الأمين” إلى مطعم “خيار عالي الخطورة”، يمسّ جوهر المبنى وقيمته العمرانية، فإعادة توظيف المباني التراثية لا يمكن أن تُدار بمنطق استثماري بحت، بل وفق معايير دقيقة تستند إلى مبادئ الحفاظ المعماري والمواثيق الدولية مثل معايير “المجلس الدولي للمعالم والمواقع” (ICOMOS).


 


إعادة توظيف المباني التراثية لا يمكن أن تُدار بمنطق استثماري بحت، بل وفق معايير دقيقة تستند إلى مبادئ الحفاظ المعماري والمواثيق الدولية مثل معايير “المجلس الدولي للمعالم والمواقع” (ICOMOS).


 يونس رستناوي


 مهندس معماري


 


رستناوي شرح أن وظيفة المطعم تتطلب تدخلات تشغيلية مكثفة، من تمديدات المياه والصرف والغاز والتكييف، إلى فتحات التهوية الجديدة، وأحمال التشغيل وتقسيمات الفراغات الداخلية، وهي تدخلات قد تفضي إلى فقدان أجزاء من النسيج التاريخي وتشويه عناصر زخرفية أصلية، فضلًا عن إمكانية إحداث إجهاد إنشائي في المبنى.


ووفق حديث رستناوي إلى عنب بلدي، فإن أي مشروع من هذا النوع لا يمكن قبوله إلا في حال التزامه بضوابط صارمة، تشمل الإشراف الكامل من مختصي الترميم، ومنع أي تخريب في الجدران الأصلية، واستخدام أنظمة قابلة للإزالة، والامتناع عن إضافة كتل جديدة، إضافة إلى التوثيق الهندسي قبل أي خطوة وبعدها، ودراسة أثر الأحمال على الهيكل.


ويخلص رستناوي إلى أن احتمال الضرر “أكبر بكثير من أي فائدة متصوَّرة”، وأن الاستخدام الجديد يجب أن يكون في خدمة المبنى لا على حسابه، وأن المشروع بصيغته الحالية “غير آمن هندسيًا وتراثيًا”، وقد يشكل خطأ بحق أحد أهم الشواهد المعمارية في حمص إذا لم يخضع لشروط حماية استثنائية ودراسات متخصصة مكتملة.


تحرك في الجمعية التاريخية

عضو مجلس الإدارة في “الجمعية التاريخية السورية”، محمد غازي حسين آغا، قال لعنب بلدي، إن قصر “مفيد الأمين” بوصفه قصر الحكم التاريخي في قلب حمص القديمة، لا يمكن التعامل معه كعقار قابل لإعادة التوظيف التجاري، ويجب أن يعامل كموقع يحمل رمزية معنوية تستوجب تخصيصه لوظائف ثقافية بحتة، مثل مركز للوثائق أو متحف يخدم المدينة وهويتها.


وأوضح آغا أن قضية تحويل القصر إلى مطعم كانت محور جلسة موسعة عقدتها “الجمعية التاريخية” في 10 من كانون الأول الحالي، شارك فيها مفكرون وفاعلون معنيون بالتراث إضافة إلى عضو في المجلس النيابي، وأن النقاش انتهى بإجماع الحاضرين على استنكار الخطوة واعتبارها انتهاكًا غير لائق بقيمة المبنى.


وأضاف آغا أن الجمعية لم تسمع حتى الآن موقفًا واضحًا من مديرية الآثار، لكنها بصدد تقديم معروض رسمي للجهات المختصة للمطالبة بوقف المشروع، وكان تأخر تحرك الجمعية بهدف مراقبة ردود فعل أصحاب القرار، والانشغال بظروف الاحتفالات بعيد التحرير.


المشروع لا يزال قيد الدراسة

مصدر في مديرية الآثار والمتاحف فضل عدم نشر اسمه لأنه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، قال لعنب بلدي، إن هناك مستثمرًا قدم دراسة لترميم القصر، وهي متوافقة مع ما هو معمول به في المديرية العامة للآثار والمتاحف لكن العقد لم يبرم حتى الآن، والموافقة عليها وتحديد تاريخ بدء العمل لم يُحددا بعد، بسبب وجود إجراءات فنية وقانونية يجب إكمالها، بحسب المصدر، وفي حال إبرام العقد، ستكون كافة الأعمال بإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف.


وأوضح المصدر أن موضوع استثمار المباني الأثرية هو توجه على مستوى الوزارة، وأن مشروع ترميم قصر “مفيد الأمين” وافق عليه وزير الثقافة، محمد صالح، ووجه به.


مدير التخطيط في المديرية العامة للآثار والمتاحف، أيمن نابو، قال لعنب بلدي، إن المشروع لا يزال قيد الدراسة، ولا يمكن اعتباره مستمرًا أو متوقفًا، ولا يوجد قرار رسمي حتى الآن بالموافقة، إلا أن المشروع تحول بشكل رسمي، بصيغته الإدارية، من وزارة الثقافة إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف، وهي بصدد دراسة هذا المشروع الآن.


وأكد نابو حرص المديرية العامة للآثار والمتاحف على كل حجر أثري موجود في سوريا، وحفظ الهوية السورية والطابع التاريخي والتراثي لكل مدينة سورية، بما تحمله من خصوصية تاريخية وأثرية.


google-news تابعوا آخر أخبار وكالة السوري الإخبارية عبر Google News

مقالات متعلقة