تكشف وثائق وصور سرّية، هُرّبت من سوريا بعد سقوط نظام الأسد، عن تعاون وثيق بين الأجهزة الأمنية والسلطات الطبية في إدارة منظومة قتل منظمة. وتُظهر آلاف الصور التي توثّق أكثر من عشرة آلاف ضحية، تعرّضهم لتعذيب ممنهج وعمليات إعدام داخل سجون النظام، من بينهم الناشط السوري البارز مازن الحمادة، الذي اختفى عام 2020 بعد عودته إلى سوريا وتوفي لاحقاً في سجن صيدنايا، الملقّب بـ"المسلخ البشري".
ماذا تكشف الوثائق؟
توضح الصور المسرّبة—والبالغ عددها أكثر من 33 ألف صورة إضافة إلى 134 ألف ملف—أن رجالاً ونساءً وأطفالاً اعتُقلوا وعُذّبوا وقُتلوا بين عامي 2015 و2024. وقد التقط مصورون عسكريون هذه الصور، ووُثّقت بدقة لإثبات تنفيذ الأوامر أمام القيادات الأمنية.
يقول عقيد سابق في الشرطة العسكرية بدمشق، احتفظ بنسخة من الملفات حتى سقوط النظام:
"يحتاج الناس إلى معرفة هذا. هذه صور الضحايا الذين تبحث عائلاتهم عن إجابات".
العقيد سلّم الوثائق للصحفيين عبر وسطاء خوفاً على حياته.
وبناءً على تعاون دولي ضم NDR الألمانية وواشنطن بوست وسود دويتشه تسايتونغ، أمضى فريق Pointer ثمانية أشهر في تحليل البيانات ومقابلة الخبراء وأسر الضحايا.
مازن الحمادة… من رمز ثورة إلى ضحية موثّقة
كان مازن الحمادة أحد أبرز منظمي الاحتجاجات في 2011. وبعد اعتقاله عام 2012، تعرّض لتعذيب قاسٍ، يرويه بنفسه في مقابلات سابقة:
"علقوني من معصمي، وكسروا أضلعي، وصعقوني برقمي… ثم رأيت الجثث في المستشفى العسكري".
هرب إلى هولندا، وشارك في توثيق جرائم النظام، لكنه عاد إلى سوريا عام 2020 في ظروف غامضة، ويُرجح أنه عاد بعد تهديدات تخص أسرته.
أُلقي القبض عليه فور وصوله، قبل أن تُظهر الملفات أنه مات تحت التعذيب في 28 سبتمبر 2024، أي قبل أشهر مما كانت تعتقده عائلته. وتقول أسرته اليوم:
"نشعر بالألم… لكننا فخورون بمازن. من الضروري أن يعرف الناس الحقيقة".
دور المستشفيات العسكرية… قلب آلة القتل
تؤكد الشهادات أن المستشفيات العسكرية لم تكن مراكز علاج، بل امتداداً لمنظومة التعذيب.
يقول أحد الناجين:
"سوريا حولت المستشفيات إلى أماكن موت، وليس للعلاج".
ويضيف طبيب تعرّض للتعذيب في مستشفى حرستا:
"الطاقم الطبي كان متواطئاً بالكامل… لقد جُرّد المستشفى من طابعه الإنساني".
وتكشف شهادات وفاة ضمن الملفات أن سبب الوفاة المدوّن دائماً هو "السكتة القلبية"، رغم وضوح آثار التعذيب على الجثث، فيما يوقع طبيب واحد على عشرات الشهادات، مدعياً أنه مُجبر:
"طلب الجيش أن نكتب السكتة القلبية… كي يكون هناك مستند للعائلات".
شاحنات التبريد… الطريق من التعذيب إلى المقابر
تظهر صور الأقمار الصناعية بين 2012 و2023 شاحنات تبريد بيضاء تقف بجوار مستشفيات حرستا و601 وتشرين، تُستخدم لنقل الجثث إلى المقابر الجماعية في القطيفة ونجها.
وتتلاءم مواقع التصوير داخل المستشفيات مع شهادات الأطباء والسجناء، حيث تُلتقط الصور في المشرحة أو خلف المباني السكنية للطاقم الطبي، قبل نقلها إلى المقابر.
نظام ترقيم الموت… البيروقراطية القاتلة
توضح الملصقات البيضاء على الجثث نظام تصنيف صارماً، يبدأ من 1 حتى 5000، قبل إعادة الترقيم وفق دورة جديدة تحمل حرفاً جديداً.
حمل مازن الحمادة الرقم 1174K، مع إشارة M لوحدة التحقيقات العسكرية في القابون، ما يعكس الدقة البيروقراطية التي تحوّل الموت إلى "معاملة" داخل آلة القتل.
خلفية أوسع: الإبادة الطبية الممنهجة
تشير الشهادات والوثائق إلى أن المستشفيات العسكرية لعبت دوراً مركزياً في الإبادة الطبية، من التعذيب حتى التوثيق ثم الدفن الجماعي. ويظهر النمط ذاته في عدة منشآت طبية عسكرية داخل دمشق وفي محيطها.
الخطوة التالية… ونداء للعدالة
تتحرك منظمات دولية حالياً لمراجعة الأدلة تمهيداً لخطوات قضائية محتملة، فيما تطالب عائلات الضحايا بفتح الملفات علناً وإحالة المسؤولين عنها إلى القضاء الدولي.
وتؤكد أسرة مازن الحمادة:
"لن نرتاح حتى يُحاسَب المذنبون… الناس يحتاجون إلى معرفة الحقيقة".