لأكثر من عقد، عُرف العالم بشخصيتين مرتبطتين بكشف الجرائم المروعة في السجون السورية: "قيصر" و"سامي".
اسمان ارتبطا بملف التعذيب الذي هزّ ضمير العالم منذ عام 2014، بعد نشر آلاف الصور التي وثقت القمع الوحشي لنظام بشار الأسد.
في أول ظهور علني له، يكشف "سامي"، أو أسامة عثمان، عن هويته الحقيقية في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط.
عثمان، الذي كان يعمل مهندسًا مدنيًا عند اندلاع الثورة السورية عام 2011، يترأس اليوم مجلس إدارة منظمة "مجموعة ملفات قيصر"، ويعتبر أن كشف هذه الجرائم كان واجبًا أخلاقيًا تجاه الضحايا.
بداية القصة: من ريف دمشق إلى توثيق الجريمة
عاش عثمان في ريف دمشق، حيث كانت بعض المناطق تحت سيطرة المعارضة المسلحة.
وعلى الجانب الآخر، عمل شخص قريب منه، عُرف لاحقًا باسم "قيصر"، داخل مناطق النظام السوري، حيث كان مكلفًا بتوثيق حالات الوفاة في أقسام الأمن.
وظيفته كانت أبعد ما تكون عن الروتينية: تصوير الجثث التي تحمل آثار تعذيب وحشية، من بينها جثث فقدت عيونها أو أجزاء من أجسادها، وأخرى أظهرت علامات جوع شديد.
كثيرون من الضحايا، بينهم أطفال ونساء، صُنّفوا تحت مسمى "إرهابيين".
بدأ التعاون بين "قيصر" و"سامي" في مايو 2011، حيث كان "قيصر" يهرب الصور عبر وسائط تخزين صغيرة ويسلمها لـ"سامي" في مناطق المعارضة.
يقول عثمان إن هذه المهمة شكلت خطرًا كبيرًا، لكنه كان يدرك أهميتها لتوثيق الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري.
الحياة تحت السرية
حافظ "سامي" على هويته السرية لسنوات طويلة، حتى عن عائلته. يقول: "حتى أطفالي لم يعرفوا أنني ذلك الرجل الذي يحمل اسم (سامي).
كنت أحاول حماية عائلتي من الخوف والقلق الناتجين عن هذه المهمة".
واستذكر موقفًا مؤثرًا حين شاهده ابنه وهو يطالع إحدى الصور المروعة: "سألني ببراءة: لماذا ينام هؤلاء الناس بلا ملابس؟ كان يعتقد أنهم نائمون".
الانتقال إلى العلن: رسالة للأجيال القادمة
قرار الكشف عن الهوية جاء بعد سقوط نظام الأسد، حيث رأى عثمان أن الوقت قد حان لتوضيح ما حدث وتوثيق الحقائق.
في حديثه، قال: "نحن في سوريا جديدة، وأريد أن أوجه رسالة للسلطات الجديدة بضرورة العمل على تحقيق العدالة الانتقالية، كي لا تعيد الأجيال القادمة معايشة هذه المآسي".
وأكد عثمان على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم، مشددًا على أهمية الحفاظ على الوثائق والأدلة التي تثبت الانتهاكات.
وقال: "أي تسامح مع مرتكبي الجرائم سيكون بمثابة دعوة لإعادة إنتاج أدوات القمع".
دور "ملف قيصر" في محاسبة النظام
أثمرت جهود "قيصر" و"سامي" في تهريب عشرات الآلاف من الصور التي أصبحت دليلًا لا يمكن إنكاره على انتهاكات النظام.
هذه الصور استُخدمت في محاكم دولية لإدانة ضباط ومسؤولين سوريين، كما دفعت الولايات المتحدة إلى إصدار "قانون قيصر" الذي فرض عقوبات صارمة على النظام.
عثمان أكد أن الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ليست حالات فردية، بل سياسة منهجية مدعومة من أعلى المستويات في النظام.
الدعوة إلى مصالحة قائمة على العدالة
اختتم عثمان مقابلته بتأكيده على ضرورة تحقيق مصالحة وطنية تستند إلى العدالة والمساءلة.
ودعا إلى بناء مجتمع يحترم كرامة الإنسان، قائلاً: "لا يمكن بناء سوريا المستقبل دون محاسبة مرتكبي الجرائم. العدالة الانتقالية هي السبيل الوحيد لضمان استقرار طويل الأمد".
وأضاف: "سوريا التي نحلم بها هي سوريا الحرة التي تقوم على المساواة والكرامة. لقد انتصرنا بدماء الشهداء، وعليها نبني مستقبلنا".
رسالة إلى السوريين
وجه عثمان رسالة إلى السوريين قائلاً: "لقد دفعنا ثمنًا باهظًا من أجل الحرية. على الجميع العمل لضمان عدم تكرار مآسي الماضي.
ما حصل كان درسًا قاسيًا، لكننا الآن في بداية طريق جديد نأمل أن يكون مليئًا بالعدالة والكرامة".
أبطال مجهولون
رغم أن "قيصر" و"سامي" باتا معروفين عالميًا، أشار عثمان إلى وجود العديد من الأبطال المجهولين الذين ساهموا في جمع الأدلة ونقلها إلى العالم الخارجي.
وقال: "لولا هؤلاء الشجعان، لما تمكنا من إيصال صوت الضحايا للعالم".
هذه القصة تظل شاهدًا على تضحيات كبيرة قدمها أشخاص اختاروا مواجهة الظلم، مهما كانت التحديات.