كتب الوزير اللاسبق الدكتور بشير المنجد :
منهجية الامتحانات "الشعبوية"
لفتت نظري إحصائية رسمية صدرت عن وزارة التربية تشير إلى أن عدد طلبة شهادة الثانوية العامة الذين حصلوا على علامة تامة في امتحانات هذا العام بلغ 32 طالبا. ولا شك ان تفوق أبناءنا وحصولهم على مجموع تام في نتيجة امتحانية مصيرية، كشهادة الثانوية العامة التي لها أثر كبير في رسم مستقبل حياتهم، أمر يثلج قلوب الجميع وبخاصة قلوب آبائهم الذين بذلوا الغالي والرخيص للوصول إلى هذه النتيجة.
ومع ذلك فإن هذه الاحصائية تستدعي الدراسة والتفكير في نتائجها. فهي تعني أن هناك 32 طالبا يحق لهم القول ان ترتيبهم الأول على سورية في هذا الامتحان، كما أن المراتب التي تلي ذلك وحتى المرتبة 33 غير موجودة فجميع الطلاب الذين حصلوا على مجموع عام أقل من المجموع التام بعلامة واحدة فقط يكون ترتيبهم 33، وربما يأتي من حصل على علامتين أقل من المجموع التام في المرتبة المائة.
وأول ما دار في ذهني عند قراءة هذه الإحصائية، وإعمال فكري في مضمونها، الرجوع بمخيلتي إلى عام 1965 عام حصولي على شهادة الثانوية العامة، وكان ترتيبي فيها التاسع على سورية بمجموع مقداره 229 علامة من أصل 260؛ وكان مجموع الطالب الأول على سورية في تلك السنة 239 علامة كما أذكر. ودار في ذهني فورا التساؤل التالي: لو حاولت اليوم (جدلا) التقدم من جديد للتفاضل الجامعي بشهادة البكالوريا التي سبق ان حصلت عليها، فما هي حظوظي في الحصول على مقعد في إحدى كليات الصف الأول (طب، صيدلة، هندسة) في الجامعات الحكومية؟ بل هل ستكون هناك فرصة للطالب الأول على سورية، عام1965، الحصول على مقعد في كلية الطب هذا العام؟
أعتقد أن الفرصة في الحالتين تكاد تكون معدومة. ألا يدل هذا التفاوت الغريب في نتائج امتحان الشهادات في سورية تاريخيا على مشكلة حقيقية؟ هل طلبة عام 2023 أفضل أداء من طلبة عام 1965مع الإشارة إلى أن المناهج قد تقدمت تقدما كبيرا في السنوات الأخيرة وأصبحت دون شك أكثر صعوبة من تلك التي تعاملنا معها عام 1965؟
الجواب الطبيعي هو لا، وانما يكمن هذا الاختلاف في المنهجية المتبعة في امتحانات الشهادات العامة والتي لا تحافظ على معايير متجانسة بين السنوات المختلفة. ويستدعي هذا الجواب تساؤلاً أخر: هل منهجية الامتحانات العامة الحالية تلبي المصلحة الحقيقية للطلبة وللوطن، أم انها تسعى كما يبدو لإرضاء الطلبة وآبائهم وأيهامهم بتفوق لا يمكن ان ينعكس فعلا على أرض الواقع؟ ألا يصح عنونتها "منهجية الامتحانات الشعبوية"
أنا لا اعتقد أنها تصب في مصلحة الطالب المتميز ولا في مصلحة الوطن. فالمشكلة الأساسية لهذه المنهجية انها تعتمد مبدأ التلقين وتبتعد عن تحفيز النقد والابداع. فمنهجية التلقين لا تفرق بين الطالب الذي يمتلك مواهب إبداعية وأفكار خلاقة وبين الطالب المتوسط طالما ان كلاهما قادر على استرجاع ما تلقنه بالمستوى ذاته، بل قد يتفوق الطالب المتوسط على الطالب المتميز إذا تمتع بذاكرة قوية لا يمتلكها الطالب المبدع. وقد يكون المثال البارز على ذلك امتحان مادة الرياضيات. فتنص المنهجية المتبعة حاليا على أن تكون المسائل المطروحة في الامتحان مماثلة للمسائل الواردة في الكتاب (مع السماح بتغيير بسيط في الأرقام) هل هذا يميز فعلا الطالب الذي يتمتع بذهن رياضي عن الطالب العادي؟ وكذلك الحال بالنسبة للغات التي تحولت إلى نصوص يحفظها الطالب ثم يصبها على ورقة الامتحان، فكيف يمكن التمييز بين الطالب الذي يمتلك ناصية اللغة والطالب قد لا يستطيع صياغة جملة قويمة؟
إذا أردنا ان نحقق عدالة حقيقية بين الطلبة في الامتحانات العامة وأن تُظهر نتائج امتحاناتنا إمكانيات الطلبة وتمايزهم إظهاراً صادقاً، علينا تعديل أسلوب الامتحانات بحيث تعكس فعلا إمكانيات الطلبة الموهوبين والذين يمتلكون ابداعا وفكرا نقديا والابتعاد عن منهجية التلقين سواء في التعليم ذاته أو في الامتحانات. وهو أمر يقع في رأيي في مصلحة الطلبة أنفسهم وفي مصلحة الوطن عموماً.