صحة

زاوية جميلة عن القلب الأخضر عند الرجل

زاوية جميلة عن القلب الأخضر عند الرجل



الدكتورة ناديا خوست تكتب :


فلسفة


كنت أعرف أن ذلك الشاب مرتبط بزميلة من زميلاتي في المدرسة، تركها في سورية ليتابع دورة أوفد إليها في موسكو. مصادفة رأيته في المسرح مع صبية. تجاهلته كيلا أحرجه، وكيلا أتحمل مسؤولية السر. لكنه خلال الاستراحة أتى إليّ. قدمها لي: صديقتي، مكسيكية! سلكتُ سلوك المتحضرين، وسلّمت عليها. لكني عدت من المسرح حزينة على زميلتي التي يخونها الشاب الذي اختارته. كانت في المدرسة متألقة، تتعب الأساتذة بأسئلتها، وكانوا يسمونها: الفيلسوفة.

في يوم آخر، التقيت به في احتفال جامعي. اخترق صفوف المحتفلين، وجلس قربي. تحدث عن سعادته بصديقته، وفتنة اللقاء العاطفي الذي يجتمع فيه التفاهم الفكري والتناغم المحب. كدت أقول له: لا تحتاج إلى التفصيل في الكلام عن سعادتك! أراها تشعشع من وجهك، وتستعين بحركات يديك! وخشيت أن أسأله: والخطيبة التي تركتها في الوطن؟ فالسؤال تدخّل في عواطف شخصية. لكنه ظل يتحدث عن سعادته حتى كدت أقتنع بأنها حقيقة، لا حق لأحد في حرمانه منها. مع ذلك، سألت نفسي في ذلك اللقاء: أيمكن أن يجرف الهوى رجلاً فينشغل عن أصوات المجتمعين، ولا يبالي بالموضوعات المهمة التي التقى لبحثها الحشد؟ أبهذه السهولة يتحدث عن هواه، مع أننا ربّينا على كتم العواطف، وأحياناً على التظاهر بنقيضها؟ 

خلال العطلة الصيفية، رجعت لأغرف من هواء دمشق. زارتني زميلتي. كانت تلبس ثوباً في لون زهر الرمان، وتتزين بعقد من الذهب، وتفوح منها السعادة. وكانت مستريحة الملامح، مزهوة بشعرها الطويل، مع أن الموضة كانت الشعر القصير. شعرت أمامها بثقل السر الذي أخفيه، لكني لاحظت أنها لا تعاني الألم من فراق الحبيب. وانساب حديثنا كما كان ينساب في أيام المدرسة واللقاءات التي تتموج فيها ضحكاتنا. قالت لي بعد السؤال عن زميلات المدرسة، إنها تزورني لأني أدرس في البلد الذي يتابع فيه خطيبها دورة التدريب. وروت لي أنه يتصل بها كل مساء بالتلفون. لكن التلفون العام لا يتيح له أكثر من كلمات تكملها بخيالها. قالت سعيدة: أصبح صوته كل مساء مثل أغنية المهد، أنام ملء عيني على هدهدتها. 

تأملت السعادة التي تتدفق من ملامحها. فهل أحرمها منها فأنغّصها؟ أكدت لنفسي: ذلك ذنب أكبر من كتم السر! وكأني أمام سعادتها بدأت أشك في الحقيقة التي سمعتها ورأيتها. انتبهت من أفكاري على سؤالها: طبعاً، أنا مشتاقة لاستعادة ذكريات أيام المدرسة، لكني لم أزرك لهذا السبب فقط. أتيت لأني أظن أنك لابد صادفته. وأريد أن أسمع منك كلمة عنه. أشعرني السؤال بأني في مصيدة. أمامي سبيلان: أن أكذب فأدعي أني لم أصادفه، وقد تكتشف ذلك فيما بعد. أو أبوح لها بما رأيته وسمعته. اخترت الدرب الذي يتوسط السبيلين. قلت: صادفته، لكن لم يتح لي الكلام معه. كنا بين الناس في احتفال عام. ابتسمت زميلتي وقالت: لا أهمية لذلك. أفهم من نغمة صوته عندما يتصل بي كل ليلة، ما يطمئنني عليه.

شعرت بالراحة بعد انصرافها. كمن عبر بأمان الامتحان الصعب بين الصدق والكذب. لكني وجدت نفسي أمام امتحان الوجدان. لأني أؤمن بأن الروح تحسّ بالنسمة إذا عبرت من نحبه. وتذكرت ما يروى عن القلب الذي يتوجس ويستشف. سمعت مرة جارة أمي تروي لها أنها صحت من نومها فجأة كأنها تختنق، وعرفت فيما بعد أن سيارة انقلبت بابنها في حادث في الخليج، في تلك اللحظة. قلت لأمي يومذاك كيلا تغرق في التفكير في الغيب: عالم الروح مجهول، قد يستطلعه العلم ذات يوم كما يستطلع الفضاء! لكن هل قلب الأم فقط هو الذي يشعر بما يعانيه الولد مهما كان بعيداً، أم قلب المحب أيضاً؟ لماذا لم يضطرب قلب زميلتي ويشعرها بخيانة الخطيب البعيد؟ ولماذا لم تقرأ ذلك من نغمة صوته الذي تسمعه كل مساء؟ أقنعت نفسي بأن حل تلك المسائل أصعب من مسائل الرياضيات والجبر. وكيلا يهز ذلك المقطع من الحياة ما أؤمن به، استدرت عنه! 

أنساني تلك القصة ما انشغلت به كالناس، وهم ينفقون حياتهم الثمينة الوحيدة، ويوجَز بعناوين عامة: تشييد الأسرة والعمل والمحيط الاجتماعي الذي نتنقل فيه. مصادفة، التقيت بزميلتي في مساء جمع بعض زميلات المدرسة. تأملتها لأستشف مصيرها. فرأيتها سعيدة كما كانت في ذلك اليوم البعيد. كانت مرتبة الشعر، تلبس طقماً نبيذياً، تزين صدرها بطوق من الكهرمان الروسي، ويفوح منها العطر. تحدثت بزهو عن أولادها في ألمانيا. وعندما وقفنا حول المائدة التي مدت عليها صاحبة البيت صحون الطعام، اقتربت مني وسألتني: كيف حالك؟ كثيراً ما أتذكرك! 

قصدتْ أن تبقى معي بعد انصرافنا. مشينا وحدنا في طريق كان يفوح من أسيجة حدائقه الياسمين. قالت لي، دون أن تظهر أنها تعاتبني: هل كنت تجهلين أن خطيبي تنقّل بين مكسيكية وغواتيمالية وجيورجية؟ وتوقفت لتحدق في عيني. اعترفت: خشيت على سعادتك! ذكرتِ لي يومذاك أنه يتصل بك كل ليلة. فكيف لم تقرئي من صوته ما يجب أن تعرفيه، وتوقعتِ أن أخبرك بذلك أنا التي صادفته مرة؟! أجابت بهدوء: خمّنت من اتصاله بي كل مساء أنه يشرّق ويغرّب، ويغتسل في المساء بذلك الاتصال. اسمعي فلسفتي! الرجل كالطفل، يشتهي أن يلمس جميع الألعاب المعروضة في واجهة مخزن. يوم صادفتِه كان كالواقف أمام تلك الواجهة. تنقّل من لعبة جميلة إلى لعبة جميلة أخرى. توقفت لأحدق في عينيها: بتلك البساطة تقبلين أن يخونك المحب؟ نظرت إليّ هي أيضاً بملء عينيها: لا، ليس ببساطة! بل بتفهّم! قلب الرجل أخضر. لا يحب الرجل أن يفقد القدرة على الحب. سألتها: لا يزال قلبه أخضر بعد أن كبر أولادكما؟ قالت بهدوء: أراه أحياناً غارقاً في التفكير، ويخطر لي أنه يقلّب ذكرياته، فأقدم له فنجان قهوة. اسمعي بقية فلسفتي: روح الإنسان واسعة، لا نحيط بأنحائها. هاجس الإنسان العميق، الحياة والموت. نحن جميعاً أمام هذه المسألة. لكن الرجل أضعف من المرأة. يتوهم الرجل أنه بالحب يمدّد حياته. يخشى أن يفهم أن ما وراءه من السنوات أكثر مما بقي منها أمامه، ويحاول الهرب من وجع الغروب! يغلب بعضنا هذا القلق بالعمل، ويغلبه بعضنا بإقناع نفسه بالامتداد في أولاده، ويتوهم بعضنا أن القدرة على الحب تعني خلود شبابه. نهرب جميعاً من قدر الفناء. سألتها: أفهم من ذلك أنك تبيحين لزوجك أن يحب امرأة أخرى؟ نظرت إليّ كالحكيمة: ألم تحدثك جدتك عن طيش الرجل في الخمسين والستين وربما في السبعين؟ ما الضرر من هوى كالوهم؟ يحب الرجل أن يتصور نفسه طيراً حراً محلّقاً، مع أنه مقيّد إلى الأرض. فلماذا نحرمه من متعة الوهم؟  

مرة أخرى أوقفتني تلك السيدة السعيدة ذات الطقم النبيذي وعقد الكهرمان، أمام امتحان. لأتأمل عالماً مجهولاً تصخب فيه العواطف والرغبات كأنها توق إلى تمديد الحياة.

google-news تابعوا آخر أخبار وكالة السوري الإخبارية عبر Google News

مقالات متعلقة